لا أحد يعرف شيئا من شعر مظفر النواب إلا وقرأ له، أو سمع في الغالب، المقطع الشهير الذي يقول فيه:
"القدسُ عروسُ عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حُجرتها؟
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرضِ
فما أشرفكم
أولاد (...) هل تسكت مغتصبة؟"
وقد فاقت شهرة هذا المقطع القصيدة المأخوذ منها، إلى درجة أن كثيرين يظنون أن هناك قصيدة اسمها (القدس عروس عروبتكم)! في حين أن القصيدة الأصلية اسمها (وتريات ليلية) وهو اسم الديوان الشعري الوحيد باللغة الفصحى الذي طبع بموافقة الشاعر، وفيه قصيدة أخرى بعنوان (قراءة في دفتر المطر). أما ما يسمى الأعمال الكاملة لمظفر فهي من تجميع معجبي الشاعر ونشرهم ولم يكن مظفر على علاقة بهذا الأمر لأن في الأعمال الكاملة فيضا مرعبا من الأخطاء لغة وإيقاعا.
لكن حديثنا هنا ليس عن أعمال النواب الشعرية، بل عن موضوع آخر مرتبط بالمقطع المذكور فقط.
على المستوى النقدي فإن شيوع هذا المقطع بصورة هائلة و(كالنار في الهشيم) لم يكن عائدا لشعريته وجماليته الأسلوبية أو خياله العالي. فكل هذه العناصر غير متوفرة في مثل هذا الكلام. لقد انتشر هذا المقطع وحفظه الملايين لأنه خطاب يلبي قناعة (الجمهور) بقضية (الشرف) أولا وأخيرا. خطاب يتفق مع الخطاب الإيماني الشعبويّ المشحون بسلطة الأعراف والتقاليد المعبر عنها بالشعار الشهير (الأرض عِرضٌ).
وكما نتخيل فإن توجيه الانتقاد الشديد لهذه الفكرة كعرف شعبويّ ثم لاستثمارها في القصائد العربية، هو انتقاد محفوف بالمحاذير ولا يخلو من الحرج. إذ كيف يمكن أن نستاء من ضرورة الدفاع عن الأرض والعرض؟ وكيف يمكن أن نستهين بالدفاع عن المرأة باعتبارها الاجتماعي الأخلاقي؟
لكن هذه المحاذير هي الأخرى في الحقيقة شكل آخر من أشكال الوعي الشعبويّ، أو بدقّة أكثر (اللاوعي الشعبويّ) وهو لاوعيٌ خدع به عدد من شعراء الحداثة حين استساغوا دائما تشبيه الوطن بالمرأة، ويجري عليه كل ما يجري على المرأة، وقد ركزوا بالدرجة الأولى على موضوع الشرف والعفّة في التشبيه بين العنصرين. ومن ذلك قول نزار قباني:
"وفقدتَ يا وطني البكارةْ
لم يكترثْ أحدٌ وسجّلتِ الجريمةُ ضدّ مجهولٍ
وأرخيت السّتارةْ
نسيت قبائلنا أظافرها
تشابهتِ الذكورةُ والأنوثةُ في وظائفها
تحوّلت الخيولُ إلى حجارةْ"
ولم يكن غريبا أن تتشابه بعض مفردات الشاعرين لا سيما مفردة (البكارة)، و(الشرف)، بل إن نزار قباني عنون قصيدته بـ (جريمة شرف أمام المحاكم العربية).
لكي نبيّن سبب نقدنا الشديد لهذه التيمة في الشعر العربي، علينا أن نفصل حقّ الدفاع عن المرأة والوطن، عن موضوع التوظيف الجنسيّ للمرأة في مقام الوطن أو الأرض أو المدينة
في المقطعين تماهٍ كامل بين جسد المرأة المغتصبة والوطن، الذي يتحول بدوره إلى مجرد (جسد أنثويّ) مغتصب، ويخرج عن كونه وطنا، وهذه من مثالب هذه اللحظة الشعرية التي لم يكترث لها الشعراء العرب مع الأسف، نقصد سوء استعمال الرمز وخروجه عن وظيفته الفنية والجمالية، ليذهب نحو دلالة تفقده أهميته. فإذا كان الحديث عن أرض ووطن، فنحن هنا أمام امرأة مغتصبة فقط، ويغيب الوطن لصالح استعمال مشوّه للاستعارة الأدبية التي صارت تيمة تتكرر وتتناسخ لدى معظم الشعراء حين يتحدثون عن اغتصاب الوطن.
لكي نبيّن سبب نقدنا الشديد لهذه التيمة في الشعر العربي، علينا أن نفصل حقّ الدفاع عن المرأة والوطن، عن موضوع التوظيف الجنسيّ للمرأة في مقام الوطن أو الأرض أو المدينة. فنحن لا يمكن بحال من الأحوال مماحكة حقوق طبيعية والاعتراض عليها. لكن من حقنا علميا ومن باب الفكر النقدي ونقد (الأنساق الثقافية) أن نبدي موقفا نقديا من هذه الاستعارة الممجوجة والتي لا أثر جمالي لها. فالمرأة مرأة، والأرض أرض. وهناك سيل من الاستعارات يمكن استثمارها في مجال العلاقة بينهما شعريا، فلماذا حصر معظم الشعراء الأمر بقضية البكارة والشرف؟
إن ملاحقة هذه الفكرة والحفر فيما تقوله علنا، بحثا عن جذورها الاجتماعية والثقافية، سوف يصلنا كل ذلك إلى نظام القيم العشائري المتناقض في الجوهر مع نظام الحداثة! والشعر الحديث واحد من تجليات الحداثة الكاملة، فكيف يتم تبرير وقوع (شعراء الحداثة) في فخّ قيمٍ تنتمي لما قبل الحداثة؟ لا ننكر أن نظام القيم العشائري هذا كان يلعب دورا أوليا في صياغة آراء الناس وتقاليدهم ويساهم في تكوينهم الثقافي والدينيّ أيضا، فكم من قيمٍ وتقاليد كان لها سطوة العرف الاجتماعي على العرف الدينيّ.
في نظام القيم تلك تصعد مسألة الشرف لتكون في صدارة المسائل التي يراها الإنسان محددة لفهمه وأحكامه على كل شيء وكل شخص. وتشكلت مع الوقت مفهومات تمازج بين معنى شرف المرأة والقبيلة نفسها، بحيث بات هناك قانون سائد مفاده أن (شرف المرأة يعادل شرف القبيلة). لذلك كان سبي النساء واحدا من الأسلحة الفتاكة التي تستعملها القبائل ضد قبائل معادية أثناء عملية الغزو. وبقدر ما يكون هناك سبايا فإن هذا يعتبر ضربات موجعة للقبيلة الخصم التي (ينالون من شرفها)، كما كانت صرخة امرأة تستنجد بالقوم سببا كافية لإشعال حرب هوجاء.
مع تطور المجتمعات حلت الدولة محل القبيلة، لكن بقي الكثير من القيم الراسخة في اللاوعي مسيطرة ولها هيمنة لا يعلى عليها، وبات هناك فصام حادّ بين استمرار هذه القيم وحياة الفرد في ظلّ ما يفترض أنها دولة تحمي الوطن لأنه وطن حرّ وسيد مستقلّ، وليس لأنه امرأة سوف تغتصب. نستدلّ من هذا الفصام على أن الدولة لم تكن غير شكلٍ خارجيّ لا وجود له داخل بنية الأفراد المنتمين لهذه الدولة. وإذا كان هذا مفهوما على الصعيد السيكولوجي، فإنّ من الصعوبة بمكان قبوله في أوساط نخب ثقافية وشعرية تنطلي عليها الخديعة. ولا نغفل هنا عن أن هناك دراسات سوسيولوجية أو تفكيكية تنتقد استمرار مفهوم القبيلة داخل جسد الدولة.
كان ينبغي القيام بتربية حقيقية في المؤسسات التعليمية كافة لتخلق وعيا لدى الأجيال بأن الدفاع عن البلاد هو شأن وطنيّ بحت ولا علاقة له بكون البلاد امرأة، ووعيا مقابلا بأن المرأة كائن مستقلّ ينبغي الدفاع عنه باعتباره الإنسانيّ الثقافي الاجتماعي وليس باعتباره جسداً يؤرق الأفراد بشكله وسلوكه وعلاقاته.
وعلى الرغم من أن نزار قباني من أهمّ من كتب في فضاء المرأة والأنوثة وتفاصيلهما، لكن كانت تفلت منه هفوات مستقرة في لاوعيه الشرقيّ بحكم استفحال هذه القيم المذكورة آنفا. على أن نزار قام في مرحلة ما بتوجيه الانتقاد الذاتي الشديد اللهجة لشعره الذي ينظر فيه للمرأة على أنها وليمة للجنس، وكان لا يتردد في القسوة على مواقف عديدة له تخلى عنها وأقرّ بقصور رؤيته تجاه تلك القضايا. وله كمّ كبير جدا من القصائد التي يجمع فيها بين معنى المرأة ومعنى الحضارة، مثل قصيدته الشهيرة (أشهد ألا امرأة إلا أنت) أو كما يقول في قصيدته (سيأتي نهار):
سيأتي نهار
أشيل ثياب البداوة عني
لكي أتعلم منك
أُصول الحوار
**
سيأتي نهار
سأترك فيه عصور انحطاطي
وأكتبُ فيكِ كلاما جميلا
به أتخطّى حدود اللّغات
وأكسر فيه زجاج الكلام
**
سيأتي نهارٌ
أحمّم وجهي
بماءِ يديك الحضاريتين
وأترك خلفي عصور الغبار
بمثل هذا الخطاب الحواري ينبغي التوجه للمرأة، فهي قادرة أن تكون رمزاً لما هو أهمّ من (اغتصاب الوطن)، قادرة أن تعلم الرجل الشرقي الحضارة، كما فعلت في أسطورة (ملحمة جلجامش) كاهنة معبد (عشتار) التي علمت (أنكيدو) المتوحش كيف يتحول إلى إنسان. وكثيرا ما يستعمل نزار هذه المقابلات بين المرأة والحضارة والمدنيّة متحررا من مرحلة كانت فيه نظرته تنتج مثل تلك الأشعار التي يتسرب فيها لاوعي الشعبويّ القابع فيه.
إن الوصول إلى وعي سياسيّ ومعرفيّ بقضيتي الوطن والمرأة معاً، كفيل بتخليصنا من خطاب ذكوريّ تنصهر فيه معايير الجسد الأنثويّ بمعايير الوطن والانتماء إليه. حينئذ نتمكن من الفصل بين اللحظتين لإعطاء المرأة كينونتها المستقلة التي ليست لحاجة لتكون استعارة مغلوطة يتم توظيفها بطريقة مسيئة.